دعم الموسوعة:
Menu

أزياء جميلة تدغدغ تقاطيع النفس قبل تقاسيم الجسد

بقلم د. نضير الخزرجي

 

قادتنا الغيمة البركانية التي ضربت سماء أوروبا في ربيع عام 2010م الى المكوث في روما مرغمين بعد أن انتهت رحلتنا مع العائلة الى القاهرة، إذ كان علينا العودة الى لندن عبر روما ولساعتين فقط، الا أن الطيران في عموم اوروبا توقف توقفاً شبه كلي تفادياً للسحب البركانية المتصاعدة من بركان ايافيالايوكل (Eyjafjallajökul) في جزيرة آيسلندا الذي بدأ في 25/3/2010م، وثار في 14/4/2010م، فكان الخيار أن نبقى لنحو اسبوع في القاهرة أو في ايطاليا بلد الترانزيت، واخترت الثانية على الأولى لأنها الأقرب الى بريطانيا وربما أمكن الحصول على قطار من روما الى باريس ومنها الى لندن، ولكن لم يحصل الذي كان في الذهن ولم تكن هناك خطوط طيران، فتعلقنا في روما حتى انجلت الغبرة وانكشحت الغيوم وعادت الخطوط الى سابق عهدها رويداً رويداً وكنا على ثاني طائرة تقلع من روما الى لندن بعد أن بتنا اليوم الأخير بنهاره وليلته في المطار بعد أن جفَّ الجيب من السيولة وامتنعت ماكنة النقود من التعامل ايجابيا مع كارت الفيزا الذي أحمله ظناً منها أن رقم الحساب مسروق كما أُبلغنا فيما بعد، وتعاملت الخطوط الإيطالية مع ركابها بشكل سلبي فلم تقدم لنا حتى قنينة ماء.legislation fashion frontcover

ورغم المعاناة الكبيرة في رحلة غير مسبوقة، وما تخللها من مواقف عصيبة في الفندق تعرضنا فيها لمحاولة سرقة في منتصف الليل من أحد النزلاء، ومع مفتش القطار الذي حاول تجريمنا ماليا بطريقة غير مهذبة قادتنا الى مركز الشرط في مطار روما، ومع هذا فإن الرحلة كانت جميلة في بلد كل شيء فيه يحكي عن تاريخ قديم، وكانت مناسبة طيبة للوقوف عن كثب على دولة الفاتيكان في وسط روما، وما يلفت النظر عند دخولنا كنيسة القديس بطرس التي يطل منها بابا الفاتيكان على الجمهور، لوحة كبيرة فيها صورة لرجل وامرأة في أزياء مقبولة وأخرى مرفوضة، ففي يمين أعلى الصورة رسم لرجل في زي عاري اليدين والساقين وفي يسار أعلى الصورة رسم لإمراة في زي هي الأخرى عارية اليدين والساقين وفي الوسط علامة مرورية حمراء تدل على حظر الدخول، وفي أدنى اللوحة صورة الرجل وهو محتشم اليدين والساقين وكذا مع المرأة، وفي الوسط علامة مرورية زرقاء دلالة على جواز الدخول، أثارت اللوحة انتباهي كما أثارت انتباه زوجتي، وبينما كنا نتحدث حول اللوحة ونحن ننتظر دورنا في الدخول وإذا بحرس يمنع صبياً في سن الخامسة عشر عاماً من الدخول ويشير على أهله بضرورة تبديل زيه كون الصبي مرتدياً لبنطلون (برمودا) أو (بنطلون ثري كوارتر) كما يقال بالانكليزية أي ما يشبه زي لاعب كرة السلة، واضطرت العائلة ان تنسحب من الصف وربما لتجد بنطلونا طويلاً لابنها الذي صده الحرس من الدخول، وكان الأمر مختلفا على بعد أمتار من حدود دولة الفاتيكان أو (كنيسة القديس بطرس)، فشبه التعري في صيف روما هو السائد، وهو تعر يكاد يكون طبيعياً في هذه البلدان في مثل هذه الأجواء، فالزي هو الزي ولكن يكون مقبولاً في العاصمة روما وغير مقبول في حدود دولة الفاتيكان كونها حريماً مقدساً يفترض الحشمة على الرواد ذكراناً وإناثا.

فما أقدم عليه الحرس الفاتيكاني واللوحة الموضوعة في الواجهة لا يتقاطعان مع الحرية الشخصية، ولكن قدسية المكان تفترض بالزائر إظهار الإحترام ومراعاة القوانين الموضوعة في نوعية الزي، وهو أمر قائم في عدد غير قليل من المناسبات العامة والخاصة لمجتمعات شرقية وغربية حيث يتم ارتداء زي معين تليق بالمناسبة، وهذا ما يتابعه الفقيه آية الله الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي في 78 مسألة فقهية ضمّها كتيب "شريعة الأزياء" الصادر حديثا (2013م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين مع مقدمة و24 تعليقة للقاضي الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.

 

الزي والحق الشخصي

فالزي من حيث هو: (هيئة الملبس الذي يضفي جمالاً وتألقاً ويُشار إليه بالبنان)، كما يعرفها الفقيه الكرباسي في التمهيد، أمر محترم ويدخل في حياض الحرية الشخصية، وبتعبير الفقيه الغديري في المقدمة: (يُعدُّ اختيار الزيّ من حقوق الإنسان الخاصة بنفسه، وربما أصبح عنواناً معيناً له أو مشتركاً مع الآخرين، فإذا اختار نوعاً خاصاً من الأعمال أو الشؤون الإجتماعية وارتدى زيّاً دالاًّ على ذلك، فمن الواجب على الآخرين القيام باحترام صاحبه تبعاً لذلك الزيّ، ولا يحق لأحد إسقاط ذلك الحق).

من هنا لا يجوز لأي إنسان أن يقسر إنساناً أو قوماً أو مجتمعاً على التخلي عن زيه المعروف به، أو إجباره على إرتداء زي معيّن، فهو خلاف الحرية الشخصية، إلا في نطاق ضيق، مثل الزي الموحَّد في المدارس أو المعامل أو المستشفيات، ويحضرني هنا زيارتي الثانية لمدينة أربيل العراقية في أعياد الفطر المبارك للعام 1434هـ في الفترة (8-12/10/2013م) حيث رغب نجلي الأكبر المهندس محمد رضا الخزرجي شراء الزي الكردي والتنزه به في شوارع المدينة وأخذ بعض الصور التذكارية مع العائلة، فاختار اللون الخاكي (الكاكي العسكري)، فقال لنا صاحب المحل أن هذا اللون في عهد النظام السابق كان من المحرمات بسوق صاحبه إلى السجن لأنه لون لباس قوات المعارضة الكردية (الپيشمرگه).

ولا ينبغي الإخلال بهذا الحق عبر التداخل الفج بين الزيين النسوي والرجال، فللنساء زيهن وللرجال زيهم، لأنه خلاف العرف الإجتماعي ويتقاطع مع الطبيعة الإنسانية التي تميز بين الذكور والإناث من حيث الزي والهيئة العامة للباس، وبشكل عام كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (لا يجوز للرجل أن يرتدي الأزياء النسوية وكذلك العكس، ويجوز لكل منهما ارتداء الازياء المشتركة بين الجنسين)، نعم يصح: (إذا كان زيّاً خاصّاً بالرجال فدرج عند النساء أو بالعكس فلا حرمة في ارتداء ذلك، وكذلك إذا أصبح من الازياء المشتركة).

كما من ثوابت هذا الحق عدم التعرض لمجتمع اعتاد رجاله على استخدام زي من اللباس يكون من خصوص النساء في مجتمع آخر، حيث تختلف الثقافات من بلد لآخر بل وفي داخل البلد الواحد بين قوم وآخرين، من قبيل زي التنورة، فهو من لباس النساء ويكون من المعيب على الرجل ارتداؤه في الكثير من المجتمعات الإنسانية، بل ويعدُّ من التشبّه بالنساء يُحرم شرعاً وعرفاً على رأي الفقاء، ولكن التنورة تُعد لدى المجتمع الاسكتلندي جزءاً من الزي الذكوري التراثي.

وإذا كان الزي حقاً مشروعاً لكل إنسان لم يخالف العرف الديني والإجتماعي ولم يتقاطع مع الذوق العام، فإن للفنان ومهندس الأزياء كامل الحق في الإحتفاظ بما رسمته أنامله وخاطته، ولا ينبغي لآخر سرقة هذا الحق أو مشاركته فيه لا سيما إذا وضع هذا الحق لنفسه كما هو الحال مع الكتاب وحقوق الطبع، بخاصة وأن الزي يجد طريقه الى مصانع الألبسة للإنتاج على مستوى واسع، من هنا يرى الفقيه الكرباسي أنَّ: (الأزياء التي يقوم بوضعها صانعها فإنْ وضع لنفسه حقوقاً، لا يجوز تجاوزها وتقليدها دون إذن منه) كما أنّ: (الحق في صورة الأزياء من الحقوق المشروعة التي تورث سواء أثبتها في الدوائر الرسمية أو لم يثبتها)، ولا يُعد الزي الخاص بقوم من الحقوق المحفوظة لا يصح لآخر التطوير فيه، ولذا: (مَن كان مصمماً للازياء يحق له أن يطور الأزياء ويأخذ زياً خاصاً بقوم أو قبيلة أو طائفة ويطوّره حسب ذوقه ليسوقه، وليس في ذلك ضير وليس فيه حقوق)، ولكن الفقيه الكرباسي يؤكد في هذا الإطار أنه: (إذا أصبحت بعض الأزياء من الملك العام أو من التراث الوطني، جاز للدولة الشرعية أن تُحافظ عليها وتمنع صاحبها من بيعها إلا الى الجهة المسؤولة شرط أن تعطيه ما يرضى به).

 

الزي وفطرية التنوع

من طبيعة الإنسان ميله الى التنوع في الملبس، وهذا الميل قاد الى التطور في صنعة الازياء عبر العالم وبمرور الأزمان، يشير الفقيه الكرباسي الى عدد من العوامل الدافعة، من قبيل:

1- حب الإنسان الى التطور.

2- حب الإنسان الى الظهور بمظهر جميل.

3- حب الإنسان إلى أن يكون مميزاً يجلب أنظار الآخرين.

كما هناك مؤثرات على تنوع الأزياء يركز الفقيه الكرباسي على عدد منها في التمهيد من قبيل:

1- الطقس والجغرافية.

فالذي يعيش في بلدان باردة يختلف زيه عن الذي يعيش في بلدان حارة أو ممطرة، وهذا أمر مسلّم به.

2- الدين والعقيدة والعادات والتقاليد.

فلباس المسلمة غير لباس غيرها من حيث الحشمة، وكذا الأمر مع الرجال، ولباس أهل المدينة غير لباس أهل القرية في البلد الواحد، بل أن الأمة الواعية تفتخر بتعدد أزياء مكوناتها في إطار الأمة الواحدة.

3- الحاجة ومتطلبات الحياة.

فكل طبقة من طبقات المجتمع الواحد له زيه يفتخر به، فللمهندس زيه وللطبيب زيه وللعامل زيه وللخطيب المنبري زيه، وهذا التنوع يشكل فسيفساء المجتمع الواحد المتعايش سلمياً.

وفي كل الأحوال فإن المسلم والمسلمة مع اعتزازهما بالزي الذي يرتضونه لأنفسهم، لابد لهما كما يقرر الفقيه الكرباسي الإنتباه الى أمور عدة تنسجم مع الأخلاق والأعراف الإجتماعية السليمة، منها: مراعاة الحشمة، مراعاة الجانب الصحي، مراعاة الجانب الإجتماعي، مراعاة الأمور الدينية، مراعاة الحالة الجمالية، مراعاة الحالة النفسية، وحرية الإختيار، وهنا يقرر الفقيه الكرباسي وبوضوح: (إنَّ الإسلام لم يخصص بزيّ ولا يذهب باتجاه توحيد الأزياء إلا في طقوس معينة كالحج والموت)، والثابت أنَّ: (للمسلمين –حسب أقطارهم وقبائلهم- أزياء مختلفة، فالعمامة وإن ورد فيها مدحٌ إلا أنها لا تُعد زيّاً مختصاً بالإسلام).

بيد أن الحرية في صناعة الزي وابتكاره لا يعطي الحق للصانع والمبتكر مخالفة الذوق العام والتحايل على أعراف المجتمع وتقاليده على طريق إشاعة الفحشاء، ولذلك يرى الفقيه الكرباسي أنه: (إذا كان هدف المُبتكر للأزياء هو إزالة العفة وإشاعة الفساد بين الناس فلا شك في حرمة عمله) ومع وجود هذه الحرمة في صنعة الأزياء فلا حرمة في شرائها: (إذ قد يستفيد منها المشتري في موارد غير محرّمة، كما لو استخدمها المرء في خلوته مع زوجته أو العكس، أو استخدمتها المرأة ليلة زفافها في الحفلات النسائية بما لا يكون خارجاً عن الموازين الشرعية).

ولطالما تساءل البعض عن الزي الإسلامي المقبول مع الإقرار بعدم وجود زي معين يحكم المسلمين نساءاً ورجالاً، وتنوع الأزياء من مجتمع لآخر. وببساطة دون تعقيد أو إلزام المرء بما يخالف ارادته فإنّ: (الزيّ الذي يمكن نسبته الى الإسلام هو الزيّ الذي يحافظ على وقار الذكور ويحافظ على ستر المرأة من أعين الأجانب وما لا يوجب الإثارة عند الذكور)، هذا حدود ما يراه الكرباسي من اللباس الإسلامي، على أنَّ الزي يختلف من مجتمع لآخر وفق الأعراف الإجتماعية، لكن الصفة العامة له هو الإحتشام والوقار.

لا شك أن الزي أو الهندام من المسائل الحياتية اليومية للجنسين، وهو يعكس طبيعة الفرد والمجتمع ومدى تذوقه للجمال بعيداً عن الإسفاف والرذيلة، وكلما أحسن الفرد في اختيار زيّه وهندامه بما يحافظ على حسن المظهر وطهارة السريرة نال إعجاب الآخر، وهذا ما تدعو اليه قيم الفضيلة الإنسانية، وهذا ما يريده فقهاء الحياة الأولى والآخرة، ويؤكدون عليه من خلال طرقهم لهذا الباب الحيوي الذي يمسّ نفس الإنسان وروحه قبل بدنه وجسده.