دعم الموسوعة:
Menu
الأديب الأستاذ أنطوان بارا

الشعر الحسيني … خُلْبٌ فکري زادته العصور رواءً

استعرض الجزء الأول من المدخل إلى الشعر الحسيني القريض من دائرة المعارف الحسينية الأديب الفاضل الأستاذ أنطوان بارا

لو قلنا إن الإسلام بدؤه محمدي و استمراره حسیني، فلن نکون مجافین لحقیقة تجلت في شواهد دینیة و تاریخیة، فعلى المستوى الدیني کانت ملحمة کربلاء عنواناً صریحاً لقیمة الثبات على المبدأ، و لعظمة المثالیة في أخذ العقیدة و تمثلها، حیث أوجدت خلال مسیرة الإسلام کدین، حرکة وجدانیة بتشکیلها ذاك المنعطف الروحي خطیر الأثر في الضمائر، و التي لولاها لکان الإسلام مذهباً باهتاً یرکن في ظاهر الرؤوس، لا کما غدا بعدها عقیدة راسخة تستوطن أعماق الصدور، و إیماناً مترعاً في وجدان کل مسلم، وحرکة روحیة عقائدیة على هذا المستوى وبهذه الفعالیة. کیف لنا أن نلمّ بشخصیة مفجِّرها دون فهم لأهداف حرکته ودور العنایة الإلهیة في تکوینها بالشکل الذي بدت فیه، وبالأهداف التي آلت إلیها بعد عدة قرون ؟.

 أهداف تمحورت حول الحق الإلهي الذي خرج الحسین (علیه السلام) ذلك الخروج الدامي لیکرس حقیقته في النفوس طالباً الإصلاح في أمّة جدِّه، آمراً بالمعروف و ناهیاً عن المنکر، لتظل العقیدة نبراساً والحق هادیاً للمخلصین له و المتعایشین بالمعروف المطهر من المنکر، کي یتحقق للمسلم ذلك الانسجام الهیولي مع الحق، فکانت ثورته (علیه السلام) خروجاً محباً من أجل الجماعة، و ستظل ملحمة استشهاده و کوکبة من أهل بیت النبوة إیقاظاً مستمراً و تذکیراً دائماً بسمو المبادىء التي کان فداها هذه الأنفس المطهرة.

 و لو تساءلنا ترى ماذا في هذه الثورة من سحر روحي جعلها لا تتخذ کما لسواها شکل المذهب الصوفي أو المبدأ النظري، بل تغدو شیئاً کالاستحواذ یتمدد في القلب و یختلط في الفکر لیغدو متلقیها قلباً و فکراً في آن معاً. السرّ في کل ذلك کما یفهمه کل ذي عقل متنوِّر یکمن فیما یسمى بـ "الهیولیة الروحیة" تلك الذخیرة الإیمانیة، صانعة الشفافیة، ملهمة الفکر بوصلة الوجدان العقیدی و موجّهته نحو قطب الحق و الصلاح و موصلته إلى سبل الحقیقة و السطوع الفکري و الخلقي "و ممن خلقنا أمة یهدون بالحق و به یعدلون" الأعراف.

  هذه الثورة التي استمدت دیمومتها و خلودها من قدسیة مفجرها و سموّ أهدافه، هل کانت مصادفة تاریخیة أو حدثاً ظرفیاً أملته عوامل و معطیات أوصلت إلیها کحتمیة …. ؟

 لا یجادل اثنان في أن الحسین (علیه السلام) کان معداً للقیام بهذه المهمة السامیة، فقد اجتمعت في شخصیته کل مقومات الشهید لا على مستوى فردي، بل على مستوى العقیدة ککل، وکان النبي (صلى الله علیه و سلم) یُعد سبطه لتحمل ضنك تلك النقلة الروحیة المجددة للصدور حینما تهتز الأرض من تحت أقدام المسلمین و تمید الدنیا بالإسلام و یتزعزع هیکل العقیدة بفعل الضلالات و الظلم والتحریف.

 "اللهم أحبه فاني أحبه" کلمة رجاء من نبي لربه في أن تکلأ عزته ما سینزرع فیه من فضائل نبویة فذّة فیبارکه من علیائه و یهدیه بإلهامه لیکمل مسیرة رسالة جدِّه الولیدة.

 و کان (علیه السلام) صورة تشکلت من صورة جدِّه (صلى الله علیه و سلم) شبیه له في الخلق و الخلقة، تطلّع إلیه الجدّ فرأى في شمائله سیماء مستقبل العقیدة و سؤددها و حامل لوائها من بعده بأمانة الشهداء و اقتدار المصلحین.

 لقد أثمرت تلك الزهرة الیانعة في تربة القداسة التي تعهدها النبی (صلى الله علیه و سلم) فسیلاً غضاً و صقلها الإمام علي (علیه السلام) بمثالیة آل البیت، فغدت فیئاً ظلّل الإسلام من هجیر الانحراف و التنکر للسنّة، و صارت نموذجاً إیمانیاً بلغت جواذبه مداها، صار المسلم یفضل معها المصارع على طاعة اللئام و مهادنة الظالمین بعد أن کان یصمت أمام تغیر الدنیا و أدبار معروفها و یرضى بالصبابة کصبابة الإناء و یسیر بخسیس العیش کالمرعى الوبیل و یتجاهل ما یراه من باطل لا یُتناهى عنه و حقٌ لا یُعمل به، و صار یردد مع إمام الثوار:

 "موت في عزّ خیر من حیاة في ذلّ" إذا کان في هذا العیش إلغاء لدوره کمسلم و إهدار لکرامته کإنسان.

وعلى مرّ الدهور و تکرار متوالیة السنین، ظل الحسین رمزاً لعظمة انسجام الإنسان مع الحق، بما قدّمه من فداء لعقیدة جدِّه الکریم فوق بطاح کربلاء لتظل عاشوراء ضمیر الدین المطور المبدع بتحریره من مظاهر المنکر جموداً و تخلفاً و خروجاً متعمداً عن جادة الإیمان و فهم جوهر العقیدة. 

 وعلى مرّ الدهور و تکرار متوالیة السنین، ظل الحسین رمزاً لعظمة انسجام الإنسان مع الحق، بما قدّمه من فداء لعقیدة جدِّه الکریم فوق بطاح کربلاء لتظل عاشوراء ضمیر الدین المطور المبدع بتحریره من مظاهر المنکر جموداً و تخلفاً و خروجاً متعمداً عن جادة الإیمان و فهم جوهر العقیدة.

  و لقد أسعدنا و أثار إعجابنا ذلك الجهد الفرید من نوعه الذي تصدت له دائرة المعارف الحسینیة بوضع موسوعة بجهد سماحة المحقق الشیخ محمد صادق الکرباسي، تتضمن سیرة و مسیرة ریحانة الرسول (صلى الله علیه و سلم) و أهل بیته و أنصاره الکرام الذین استشهدوا في واقعة الطف الألیمة عام 61 من الهجرة فوق بطاح کربلاء، و ما علمناه من أن عدد أجزاء هذه الموسوعة المزمعة یربو على الخمسمائة جزء سوف تغطی ستین باباً منوعاً، و بهذا تکون الموسوعة مشروعاً إعلامیاً و توثیقاً غیر مسبوق و جهد لا یماثل، یجزى علیه الشیخ الکرباسي و معاونوه کل الجزاء، لأنه عمل فکري لا یجاري، لاسیما أن هذه المشاریع الموسوعیة بحاجة إلى سهرٍ و تحقیق و متابعة و بحث لا یتوقف على مدار الأربع و العشرین ساعة، و من لم یجرب القیام بمثل هذه المشاریع، لا یعرف مقدار المعاناة و الجهد اللازمین لإنجاز واحد منها، فکیف بخمسمائة ؟ إننا نثمِّن مسبقاً هذا الجهد و نبارك لسماحة المحقق هذا الإنجاز الذي سیُکتب بأحرفٍ من نور في سجلّ الاجتهاد و التضحیة و الإیثار في سبیل إضافة جدیدة لسیرة و مسیرة سبط الرسول و ریحانته، هذه المسیرة التي لن تتوقف حتى تبلغ بالإنسان مداها و إلى أن یرث الله الأرض و ما علیها.

  و حول الجزء الخاص المعنون بـ " المدخل إلى الشعر الحسینی " الجزء الأول، فإن المکتبة العربیة تفتقر إلى کتاب یجمع بین دفتیه ما نظم من أشعار عن ملحمة کربلاء التي شکّلت على مرّ التاریخ إلهاماً للشعراء و ذوي النفوس الشفیفة، لما حملته الفاجعة الألیمة من معان روحیة و توثب ثوري و غیرة على العقیدة، فکانت على الدوام دعوة تستحثّ شاعریة الأنفس النزاعة للتحلیق في عالم المُثل الزاخر بکمال الأخلاق، تبحث في تلافیفه عن الجمالیات الفکریة المتزاحمة في فسیفساء لا أجمل، شکّلتها ملایین المعانی و الصور الإنسانیة الخلاّبة لتصبّها في قالب بلاغي بما تتضمنه من رموز جاذبة و ما تورثه من خلب عقلي ورواء نفسي و ارتواء روحي یوزع سناه کما توزع بلورة صافیة ضوء الشمس المنعکس علیها یدور مدارها حول شخصیة سید الشهداء (علیه السلام) بما اختصت به من إعجاز الله في خلقه و ما نفحته العنایة الإلهیة في أفکارهم و أفعالهم، فکانت خلقتهم و خلقهم ومواقفهم صورة أمینة لما استودعه الله فیهم من سرّ إعجازه في الخلق.

  و هکذا شخصیة التقت فیها شعلة النبوة المقدسة بالمثالیة البشریة، لم تترك قلباً إلا و مسّته ولا فکراً إلا و ألهبته، فلیس غریباً أن تنطلق تلك الانسیالات الفکریة ممجدة مواقف البطولة التي جسدها الحسین فوق أرض الطف، و لا عجب فإن من آیات القلوب و الأفکار أن تعشق الجمال و تجانس بین النبض و الإلهام فتجعل أصحابها شعراء و أدباء یرسمون بالکلمات عالماً من المثل و الجمالیات لا یحده ولا تلحق بانطلاقته أشد الأخیلة جموحاً.

  و في هتاف القلوب و رسم الأفکار صدى لما استعر فیها من أصوات رجافة تنساب إلیها من أعماق الدهور لتمسّ مواطن الجمال فیها فتخط على صفحة أعماقها الصافیة خط حنان و استذکار. وشهید کالحسین انتهت إلیه کل سمات العظمة قمین بأن تستوحیه العقول و الأفئدة إلهاماً دوّاماً وتستکین لسیرته العطرة النفوس النزّاعة إلى مثوى السکینة و السلوى و تنشد آیات الحب و الجمال ورضى القلب، و هذا ما عناه الإمام الصادق (علیه السلام) بقوله لأبي عبد الله جعفر بن عفان الطائي: "ما مِن أحدٍ قال في الحسین شعراً، فبکى و أبکى به إلا أوجب الله له الجنة و غفر له".

  و هکذا على مرّ التاریخ ظلت فاجعة الطف مصدر إلهام لا ینضب للشعراء، فهذا و ذاك شاعر تُبهلل نفسه مخارف الدنیا و بلهنیة العیش تراه في موضع یذکر فیه الحسین و قد تحول إلى ناسك متبتِّل یقنع بالبلغة تستقر في حلقه لا تغادره لجفافها إلى فوق أو تحتو هذا و ذاك شاعر لا تتحرك کوامنه إلا للفج من المشاعر المکثفة الصارخة، تجده ینفعل بأخفت شعور یصله من فضاء کربلاء فیعطي أبلغ ما عنده من فصاحة و یرسل أفصح ما لدیه من بلاغة شعراً ونثراً.

  و شاعر یبخل بمدحه للملوك یملأ بعده جرابه ذهباً و یسخو أیما سخاء في مدح الحسین على غیر أمل في درهم واحد، و على توقع نوال الأذى و المشقّة و الإحن. و شاعر آخر لم تکن أهوال الدنیا ومفاتنها لترف له جفناً، لکن کان یبکي کطفل کلما نزعت أفکاره إلى ذکرى کربلاء فیرسل الدمع الهتون أسىً و حرقة.

 و کانت کربلاء بإرهاصاتها الروحیة أنشودة وضعها الحسین على الشفاه فما ملّتها قط، استوطنت حناجر الأجیال، تطرب لها العقول و تحنو علیها الأضلع و الصدور کدرّة ثمینة، فتلهب المشاعر وتهز القرائح لها اهتزاز الصبّ المستهام فتخلّدها کلماً و شعراً إلى جانب ما خلّده التاریخ منها سرداً وتحلیلاً.

  من هنا تأتي أهمیة کتاب المدخل إلى الشعر الحسینی لیجمع بین دفات دواوینه المعطى الجوهري لرمزیة حرکة الحسین و أثرها في النفوس، و ما خلّفته من إیحاءآت فکریة و روحیة مذ کان المقتل في العاشر من محرم عام 61 هـ و حتى یومنا هذا، حیث تحول الشعر الحسیني على مرّ التاریخ إلى نهضة فکریة متکاملة و منهج فلسفي فجّر العدید من الثورات الاجتماعیة و السیاسیة رغم محاولات الأنظمة الحاکمة الحد من تأثیره بأسالیب الترهیب و الترغیب، و طرح بدائل له لصرف الأنظار عنه، إلا أن الأدب الحسیني کان یسري کالسِّحر لأن محوره " واقعة الطف " کانت أدبیاتها قد ربضت فی الوجدان الجمعي للأمة الإسلامیة، و اختلفت بذرات ضمیرها الدیني، فلم یعد التأثیر علیها ممکناً، بل زادتها تلك المحاولات عُلواً و رسوخاً و تفاعلاً تحقق بمتوالیة هندسیة تضاعفت تلقائیاً بمرور الأیام و تعاقب القرون.

  فشکراً للشیخ الکرباسي الذي وفّر على قرّاء العربیة عاشقي سیرة آل البیت معاناة البحث في بطون الکتب عن الشعر الحسیني بتحقیقه و جمعه في دواوین خاصة، و هنیئاً للمغرمین بأدب الطف على هذه الهدیة النادرة التی لا تُقدّر بثمن.

  

1/9/2000 م 2/6/1421 هـ

الکویت

Kuwait أنطون بارا