دعم الموسوعة:
Menu
pierre-jean luizard

العمل الموسوعي المدهش

 

استعرض الدکتور جون بییر لویزار، المتخصص بالتاریخ الاسلامي المعاصر في الشرق الأوسط العربي، دیوان القرن الثاني من دائرة المعا رف الحسینیة باللغة الفرنسیة، وقد تمّ ترجمته الى العربیة.

  

ولد الدکتور لویزار في باریس 1373 هـ ( 1954 م).یشغل الآن أستـاذاً في المعهد الوطني للّغات والحضارات الشرقیة (inalco) في باریس،باحث فرنسي في المرکز الوطني للبحوث العلمیة(cnrs) ، له مقالات وبحوث عدیدة حول مصر (الأزهر والإخوان الصوفیة) والعراق وتاریخ الإصلاح الإسلامي، نـشرت في العدید من الصحف العربـیة والغربـیة،له مؤلفات منها:

" أخبار العراق الحدیث" – الدور السیاسي لعلماء الشیعة في نهایة الهیمنة العثمانیة وحتى إعلان الدولة العراقیة.

بعد مقتل عليّ، الامام الأول والخلیفة الرابع، وبعد تـنازل ابنه الأول الحسن، الامام الثاني، عن الخلافة، وبعد القضاء على ثـورة الحسین، الامام الثالث، بدأت قضیة أنصار أهل بیت النبي تبدو وکأنها قضیة خاسرة. فالجروح البالغة التي ترکتها فاجعة کربلاء عام (680) ظلت مهیمنة على القرن الثاني للهجرة، الى درجة أصبح فیها هذا القرن یمثل بشکل واضح فترة انقطاع الأمل في مستقبل التشیع. فهناك مخاطر عدیدة تهدد وجود التشیع نفسه. وقد وجد الائمة الذین أعقبوا الحسین أنفسهم محاصرین من کل الجوانب، فمن ناحیة، کانت هناك السلطة الاستبدادیة، سواء الأمویة أو العباسیة ومن ناحیة ثانیة کانت هناك الضغوطات الداخلیة من قِبَلْ أنصار الامام علي، من أصحاب التوجهات المتطرّفة، أما المشکلة الاخرى فهي ظهور عدد من الرجال الذین ادّعوا الإمامة أو انهم " الإمام المهدي " لذلك فان أئمة الشیعة وبوجه خاص علي زین العابدین، محمد الباقر، جعفر الصادق وموسى الکاظم، عانوا کثیراً کي یعرّفوا الناس بهم وبحقهم الشرعي في الإمامة.

إن الحزن الذي سبّبه مصرع الإمام الحسین وأصحابه، ظلّ یرفد تیاراً کبیراً من المتعاطفین مع أبناء علي، رغم جور السلطة الأمویة خلال قرن کامل من حکمها، کما انه لم یثن الامة من المطالبة بالتغیـیر. فمن خلال السعي والمطالبة بتـنصیب أحد أبناء علي للخلافة بدلا عن الأمویـین، ظهرت حرکات تُعتبر من إفرازات الأفکار المتطرفة، من أهمها حرکة " التوابین " في الکوفة، وهي تـشکل أول مظهر من مظاهر التعاطف الشیعي بعد مجزرة کربـلاء، التي قضى علیها الأمویون عام 685، ثم عاد التوابون لیلتـفّوا حول المختار الذي ثار ضد الأمویـین بإسم " محمد بن الحنـفیة " وهو أحد أبناء الإمام علي. وقد حظیت هذه الثورة بتعاطف شیعي کبـیر، وحتى بعد القضاء على حرکة المختار ومقـتله عام 687، فان التعاطف الشیعي مع محمد بن الحنفیّـة لم یتوقـف، فان ثورة المختـار شکـّلت ولادة الفرقة " الکیسانیة "والتي کانت تمثّـل، قبل ظهور " الزیدیة " بمدة طویلة، الوجود الشیعي الأکثر نشاطاً خلال الفترة ما بـین نهایة القرن الأول وبدایة القرن الثاني.

ظهرت بعد ذلك عدّة حرکات وأحداث جعلت من القضیة الشیعیة الأکثر شعبیة، وفي الوقت نفسه ضاعفت علیها المخاطر، من قبل أولئك الذین یـدّعون القیادة الدینیة. وقد تغنّى شاعران، هما: کثیر عزّة المتوفى عام 724 والسید الحمـیري المتوفي عام 789 بأماني هذا العصر، في نهایة الحکم الامویة وبدایة سلطة العباسیـین، کما کانت ظاهرة بروز الفرق الشیـعیة المتطرفـة، والتي سُـمّیت فیما بعد بـ " الغلاة " ومـدّعي الإمامة، تمثـل إشکالیة کبیرة في التعرّف على الائمة.

فبالرغم من أن کل الـفِرَق الشیعیة کانت متّـفقة على خلافة الإمام الحسن، للإمام علي، ومن ثم خلافة الإمام الحـسین، إلا أن الخلافات التی نشأت بعد مقـتل الإمام الحسین کانت کثیرة، فأغلبـیة الشیعة ساندوا المختـار ومحمد بن الحنفیّـة، ولم یساندوا علي زین العابدین، الإمام الرابع. والحال نفسه فیما یخص محمد الباقر، الإمام الخامس، حیث أغلبـیة الشیعة کانت تـناصر إما أبا هاشم ابن محمد بن الحنفیّـة، وإما أخا محمد الباقر، زید بن علي، الذي قام بأکبر الثورات الشیعیة بعد المختار والتي تسبّبت بنشوء الفرقة الزیدیة فیما بعد، والتي اعتبرت الإمام زیداً هو الإمام الخامس، بعد إمامة زین العابدین. ولا نعلم ما إذا کان هناك من یطالب بإمامة خلفاء الإمام الحسین، وزین العابدین، ومحمد الباقر، وحتى مجيء الإمام السادس، جعفر الصادق، حیث بدا واضحاً أن هناك خطّـاً دینـیاً في طریقه للتـشکیل والبناء.

علي زین العابدین، المعروف بالسجّاد، والزکي، کان الوحید من الرجال، الذی بقی حیّاً بعد واقعة کربلاء، وعاش حیاته بالتـقوى والزهد والبکاء على شهداء کربلاء. وحسب مؤرخي الشیعة، فان علي زین العابدین توفي عام 712 أو 713، بعد أن دُسّ الیه السُّم، بأمر الخلیفة الأموی الولید، أو بأمر أخیه هشام.

عاش محمد الباقر، کأبیه، بعیداً عن المطالبة بالإمامة. وحسب المؤرخین الشیعة فانه توفي هو الآخر مسموماً، عام 732 أو 743، بأمر من هشام، أو بأمر ابن الولید.

الإمام السادس، جعفر الصادق، الوحید من بـین الأئمة الذي یقارنه الشیعة بالإمام علي من حیث التـقوى والعلم. ومن بـین تلامذته، أبو حنیـفة، ومالک بن أنَسْ. وفي فترة إمامته، سقطت الخلافة الأمویة، وکثر مدّعو الخلافة من العلویین. أما بالنسبة للشیعة، فقد ساندوا بالتسلسل: ثورة زید بن علي عام 740 ثم ثورة عبد الله بن معاویة (من نسل جعفر الطیار) عام 744، ثم بدایة الانقلاب العباسي على الأمویـین عام 747، ثم ثورة محمد ذي النفس الزکیّة، وهو أحد أحفاد الإمام الحسن، ضد العباسیـین وذلك عام 762. لکن الإمام جعفر الصادق، اتّبع نفس سلوکیة أبـیه وجدّه المطمئنة، وحتى فی الوقت الذي عرض علیه أبو سَـلَمة، مُـنَظِّر السیاسة العباسیة، الخلافة، فقد رفضها،   ویمکننا من أن نـقسّم فتـرة إمامة جعفر الصادق الى مرحلتـین: الأولى تحت الحکم الأموي، حیث ظل یدرّس في المدینة، أما في المرحلة الثـانیة تحت الحکم المنصور العباسی (754 – 775) فان الإمام السادس بدأ یحسّ بالقـلق.

هذه الفترة، تعتبر حرجة جداً بالنسبة للشیعة، إذ أن ثورة العباسیـین کان لها الأثر العمیق في صفوف الشیعة، حیث أثارت مشاعرهم ضد الأمویـین، فأبو مسلم الذي أجّج الثورة في خراسان عام 747، لمصلحة أبي العباس، کان من أتباع " الکیـسانیة " کما أشاع العباسیون أن أبا هـاشم، ابن الحنفیّـة، قد نقـل الإمامة الي بنی العباس، وأتـباع ابن الحنفیّـة، عرفوا بـ " الکیسانیة "، وهم من أوائل الفرق الشیعیة التي کانت تـنشر الدعوة الشیعیة، وقد استغلّهم العباسـیون لإنجاح ثورتهم. لذا فقد اعتُـبرت ثورة العباسیـین، بالنسبة لکثیـر من من أنصار " الکیسانیة " و " الزیدیة " أنها جاءت محققة لآمالهم، لکنها في الواقع کانت مجرد سبب لهزیمة الامویـین وتـثبـیتاً لحکمهم، بدعوى نصرة العلویین الذین ذاقـوا الأمرّین على ید الأمویین. وبعد استـتباب أمرهم، أقدم الخلیفة العباسي المنصور، بعد الاستحواذ على العواطف الشیعیة، على قـتل أبي مسلم الخراسانی، فکانت بدایة العدّ التـنازلي.

إن استقرار الخلافة العباسیة وظهور بدایات التسنّن، تسبب في ظهور الفرق " المهدیة " العدیدة والمتزایدة، والتي کانت أداة للضغط على العباسیـین وتغیـیر أسلوبهم في الحکم، کما ان عداوة بعض الخلفاء العباسیین لأئمة الشیعة، وظهور الفرق المتطرفة " الغُلاة " سببت ایجاد مصاعب للائمة الذین کانوا یواجهون یومیاً أدعیاء الإمامة. وقد أثرت مفاهیم الغُلاة على التـشیع مدة طویلة حتى مجيء الإمام جعفر الصادق، حیث بدأت هذه الأفکار تضمحلّ، وتُرفض، وخصوصاً فکرة التـناسخ الإلهي.

کل هذه المخاطر، دفعت بالشیعة الى وضع القواعد لمبادئهم، فان جعفر الصادق، ومن أجل التعرض لکل هؤلاء، ممن یدعون الإمامة من العباسیـین وغیرهم، قام بتطویر نظریة " النصّ "، أی تحدید الإمام بالوصیة نصّـاً لمن یخلفه بالإمامة، وابتداءً من هذا الوقت، بدأ الشیعة بالاعتماد على قیادة أئمتهم فیما یخص العبادات والمعاملات، ورفض التعلیمات الموضوعة من قبل عمر وغیره من المحدثین. کما طرح جعفر الصادق الإمامة کأصل من أصول العقیدة الشیعیة. فالإمام، بعد وفاة النبی وانقطاع الوحی، هو الذي یمثّـل القانون، وهو المنفّذ لهذا القانون والمدافع عنه، لأن القرآن والسُنّة لا یطرحان جمیع الحالات، ومن واجب الإمام قیادة المؤمنین في کل مجالات وجودهم، وأسوة بالنبي، یجب أن یکون معیناً من الله، فالإمام مثل النبي، یمثّـل حالة التواصل، فهو إذن عهد إلهي، فللأئمة حق الولایة، رغم ان علیاً هو الوحید الذی مارس السلطة التی تمیز بها النبی، وأخیراً فان ما یُمیّـز الاثـنی عشریة عن بقیـّة الشیعة، هي سیاسة التـقـیّة، التي وضعها جعفر الصادق، کدلیل على ما کان یعیشه الأئمة من القلق في مراحل الخطر.

وحسب المؤرخین الشیعة، فان جعفر الصادق، مات مسموماً بأمر الخلیفة العباسی المنصور عام 765. في هذه الأثناء، بدأ ظهور الانقسامات لدى الشیعة، فالإمام السابع موسى الکاظم، عاش تـنافساً شدیداً مع أخیه إسماعیل، الذي اعترف به أغلب الشیعة، کإمام، مما تسبب بانقسام شدید في قلب التـشیع. فالإسماعیلیة، أتباع إسماعیل، اختـلفوا عن الشیعة الاثنی عشریة في الإمام السابع، ولهذا سموا بالسبعیة، من ناحیة أخرى فان خلافة موسى الکاظم الذي حصل على بـیعة عدد من الشیعة، أصبحت صعبة جداً، حیث ان البعض اعتـقد بأنه آخِر الأئمة وأنه المهدی. لذا فقد عاش الإمام السابع فترة العداوة الشرسة من قبل الخلفاء العباسیـین وخصوصا هارون الرشید (786 – 809) حیث بلغ اضطهاد الشیعة في عهده ذروته. والمؤامرة التي قام بها الوزیر البرمکي، یحیى بن خالد، کانت تهدف الى إغتیال الإمام موسى الکاظم بدسّ السُّم وذلك عام 799، حیث کان الوزیر یصرّح بان الإمام الکاظم یـبشّر بنهایة البرامکة، بعد وفاة هارون الرشید.

قسّم هارون الرشید إمبراطوریته بین ولدیه الأمین والمأمون، لکن الحرب سرعان ما نشبت بـینهما، فاستغلها بعض الشیعة للقیام بثورة ضد العباسیـین، مستغلین ضعفهم. فبعد موت الأمین، منح المأمون ولایة العهد للإمام الثـامن علي الرضا، وذلك عام 816، لکن الإمام علي الرضا، توفي بشکل مباغت عام 818 مقـتـولا بالسمّ، حسب مؤرخی الشیعة، بأمر من المأمون، الذي کان یخشى من الشعبـیة التي حصل علیها، ولأنه أراد الذهـاب باتجاه ردّ الـفعل السنّي الذي تأکـد بعد عام 813 وتمثّـل بالمعتـزلة.

کان القرن الثاني للهجرة ملیئا بالاضطرابات، وقد تحمّـل فیه أنصار أهل بـیت النبي أنواع الاضطهاد من قبل أکثر السلطات المتعاقبة، سواء الأمویة أو العباسیة. وقد کان السید الحِمْـیَری قد وضع قصیدة عصماء تُعتبر لسان حال الشکوى الشیعیة، وفي هذا العصر مات علي أثرها، ولم یُدفن کسائر المسلمین. لذا فانه لیس من العجیب أن یکون الشعر العربي الذي وصلنا من هذا العصر، والذي کُتب تخلیداً للإمام الحسین، حاملا لهذه المشاعر والمعاناة التي ظلت معاصرة ومعايشة منذ فاجعة کربلاء، الذي سیطرت علیه شخصیة الإمام الحسین. وفي هذا العصر، حیث المشاعر العلویة کانت متوهجة، کما تؤکد على ذلك الحرکات المناوئة للأمویـین والعباسیـین، لم یصلنا إلا القـلیل من ذلك الشعر الذي نُظم في رثاء الإمام الثالث، والکثیر منه لم یصلنا، وما وصل إلینا هو أبـیات بالعربي الفصیح أو العامي، تصـور فیها مشاعر المحبة تجاه حفـید النبي. إلا أن العمل الموسوعي للشیخ محمد صادق محمد الکرباسي یـبدو مدهشاً، حیث ان جهوده قد أثمرت، من خلال القصائد التي کان من الصعب جمعها وتقدیمها، وإخراج الموضوع إخراجاً رائعاً.

 

1996/5/10م

فرنسا - باریس

France جون بیـیر لویزار