دعم الموسوعة:
Menu
Prof. George Kanazi

المأثرة الخالدة

 

استعرض البروفیسور جورج قنازع الجزء الثاني من المدخل إلى الشعر الحسیني من " دائرة المعارف الحسینیة " باللغة العربیة:

  

یطیب لي أن أکتب هذه الکلمات لأقدم بها للجزء الثاني من دائرة المعارف الحسینیة، هذا المشروع الضخم الذي یجمع في طیاته تاریخ حقبة هامة من الزمن کان لها انعکاساتها الشدیدة على ما تلاها من أحداث، کما کان لها أثرها العمیق على الحضارة و الأدب.

عندما تولى یزید بن معاویة الخلافة بعد موت والده، و أصبح بذلك الخلیفة الأموي الثاني، کان یعلم حق العلم أن المعارضة لتولیه الخلافة لم تنته تماماً، إذ لم یستطع معاویة رغم ما أوتي من دهاء سیاسي و قدرة و مال أن یؤمن لولي عهده بیعة جمیع قادة المسلمین، بل بقي منهم من ظل على موقفه من عدم الموافقة على بیعة یزید، و کان أبرز هؤلاء الحسین بن علي الذي ورث الإمامة عن أخیه الحسن و کان الوارث لحقوق أخیه في الخلافة حسب اتفاق الصلح الذی کان بین الإمام الحسن و معاویة في عام الجماعة. و کان من الطبیعي أن یعمل یزید على أخذ البیعة من معارضي خلافته لضمان استقرار حکمه، لکنه اصطدم بمعارضة الحسین التي لم تنحسر، بل ازداد خطرها عندما ظهرت مکشوفة تهدد استقرار الحکم الأموي في جنوب العراق حین کان الحجاز تغلي مراجله و فیه ابن الزبیر و المختار الثقفي و غیرهما من الأشراف المعارضین للسلطة الأمویة.

عرف یزید أنه إن لم یأخذ الحسین بالشدة فانه یعرض حکمه للخطر، لذلك حشد قواته في وجه الحسین في کربلاء في السنة الأولى من حکمه، و کان من نتیجة ذلك أن قتل الحسین و بعض أهل بیته، ثم أخذ الباقون سبایا إلى الشام. هکذا سیطر یزید على الأوضاع و لکن إلى حین، فقد شهد الحکم الأموي بعد موته مباشرة صراعاً على الحکم انتهى بالانقلاب المرواني أعقبته فترة من عدم الاستقرار حین ثار ابن الزبیر و سیطر على الحجاز وجنوب العراق، و حین کان المختار الثقفي یعمل متعقباً قتلة الحسین للانتقام منهم. و مما لا شك فیه أن هذه الحادثة کانت من بین العوامل الفعالة التي ساهمت بشکل مباشر في سقوط الحکم الأموي و لما یمض على تأسیسه قرن واحد من الزمن.

...و رغم ذلك ظل الحسین رمزاً للشهادة والتضحیة في سبیل العدالة الاجتماعیة.

 کان لمقتل الحسین أثر کبیر جداً في الحیاة السیاسیة للمجتمع العربي في تلك الفترة، و لکنه لم یقتصر على ذلك. فالقرون الکثیرة التي توالت منذ حادثة کربلاء ما زالت تحمل أثر ذلك المقتل سیاسیاً و اجتماعیاً و أدبیاً وحضاریاً، و ما زال الحدث حیاً یتفاعل مع الجماهیر و ما زالت الجماهیر تجد فیه ما یشدها إلیه و ما تستوحیه منه. لقد ثار الکثیرون منذ أن ثار التوابون غضباً لمقتل الحسین محاولین الانتقام له، و قد تمکن المختار الثقفي من الثأر لدم الحسین حین قتل کل من شارك في قتل الحسین في کربلاء، و رغم ذلك ظل الحسین رمزاً للشهادة والتضحیة في سبیل العدالة الاجتماعیة.

و لقد تعدى مقتل الحسین التأثیر في المجال الدیني-السیاسي لیحتل بقوة مکانة بارزة في مجال الأدب الذي نراه في اتجاهات مختلفة، في شعر الرثاء و في وضع الکتب الخاصة بتصویر حادثة المقتل، ثم في الأدب الشعبي الذي تناول هذا الموضوع و أعمل فیه الخیال فجاء غایة في الروعة، نستدل منه على غنى الأدب الشعبي حین یکون الموضوع مؤثراً و حین یعمل الوجدان الشعبي على بلورة الأحداث و الشخصیات.

في شعر الرثاء یتضح أن کمیة کبیرة من هذا الشعر الذي یرثي الحسین منذ مقتله حتى أیامنا هذه قد تراکمت لیصبح أمامنا عدد هائل من القصائد التي جمع بعضها في کتب خاصة مثل المنتخب في جمع المراثي و الخطب لفخر الدین الطریحي أو الدر النضید في مراثي السبط الشهید ( و فیه أکثر من ستة آلاف بیت من الشعر ) لمحسن الأمین العاملي. و لا عجب أن نجد من الشعراء من أفرد لهذا الموضوع دیواناً خاصاً أو تفرغ له من دون أن یطرق أي موضوع آخر. و قد رثي الشعراء الحسین منذ الحکم الأموي حین کان الخوف من بني أمیة رادعاً أدى بالبعض إلى إخفاء شعره کما فعل عبد الله بن عوف بن الأحمر(1) الذي قال المرزباني عن مرثیته إنها " کانت تخبأ أیام الأمویین، إنما خرجت بعد ذلك."

أما وضع کتب المقاتل فقد بدأ في القرن الهجري الأول کما یبدو، لأن أول کتاب یحمل اسم مقتل الحسین منسوب للأصبغ بن نباتة المجاشعي الذي توفي سنة 100 /719، کما یقول آغا بزرك طهراني في کتاب الذریعة إلى تصانیف الشیعة، ثم تلاه جابر بن یزید الجعفي الذي توفي سنة 128 /745 في وضع کتاب یحمل نفس الاسم، ولکن الکتابین ضائعان، و علیه فان مقتل الحسین المنسوب لأبي مخنف ( ت. 157 /773 ) هو أول کتاب وصلنا من هذه السلسلة الطویلة من کتب المقاتل، و قد طبع مراراً، کما ترجمه المستشرق الألماني هنري فردیناند وستنفلد ( 1808-1899 ) إلى الألمانیة و أصدره في جوتنجن سنة 1883. بعد أبي مخنف توالى التألیف في مقتل الحسین عبر القرون ثم تجاوز حدود اللغة العربیة حین ترجمت بعض هذه المقاتل إلى اللغات الأخرى کالفارسیة والأردیة و الترکیة و غیرها، و حین ساهم أبناء هذه اللغات أیضاً بتألیف کتب فی هذا الموضوع. هکذا وضع عدد کبیر من الکتب التي حمل معظمها في القرون الأولى نفس الاسم " مقتل الحسین " و لکن المؤلفین تحولوا تدریجیاً إلى أسماء أخرى مثل " معدن البکاء " و " نفس المهموم " و " الملهوف على قتلى الطفوف " و غیرها.

یضاف إلى هذه المجموعة الکبیرة من الکتب ما ألحق بها في الحدیث عن الثأر کما في شرح الثأر في أحوال المختار للشیخ ابن نما، أو ذوب النضار في شرح الثأر للشیخ نجم الدین، و هو من أحفاد الشیخ ابن نما.

و قد ذکر من بین کتب المقاتل هذه کتاب بعنوان نور العین في مقتل الحسین و نسب لأبي إسحق الاسفراییني، و آخر بعنوان قرة العین في أخذ ثار الحسین لعبد الله بن محمد، و هو مؤلف مجهول. یمکن اعتبار کلا الکتابین من الأدب الشعبي الذي تناول موضوع مقتل الحسین و ابتعد به کثیراً عن الأحداث التاریخیة و أدخل عنصر الخیال والتطور الحماسي الدرامي الحافل بالمفاجآت الذي ینتهي بالنصر المبین على أعداء الحسین. و لقد بینت في دراسة سابقة )2) أن الکتاب الأول لا یمکن أن یکون من تألیف الاسفراییني، لأن فیه ما یدل على أنه قد وضع في القرن الهجري التاسع، في حین کانت وفاة الاسفراییني في القرن الهجري الخامس، أما الکتاب الثاني مجهول المؤلف فقد وضع بعد الکتاب السابق، إذ یذکر مؤلفه في البدایة أنه وضعه بعد أن اطلع على کتاب نور العین.

بعد ما تقدم یجب ألا ننسى أن الحسین بن علي بنفسه کان مبدعاً في مجال الأدب، فقد کان خطیباً مصقعاً کما کان شاعراً جمع محمد عبد الرحیم شعره و رتبه و شرحه في کتاب بعنوان دیوان الحسین بن علي صادر عن دار المختارات العربیة في بیروت سنة 1412/1992، (3) .

هذا الجزء من دائرة المعارف الحسینیة الذي نقدم له هو الجزء الثاني من " المدخل إلى الشعر الحسیني " کما في عنوانه، و هو على ضخامته لیس إلا " مدخلاً "، لأن الشعر الحسیني کثیر شارك فیه عدد کبیر جداً من الشعراء من مختلف الأقطار الإسلامیة، أضاف له الشیخ محمد صادق الکرباسي ما قاله شعراء آخرون من أدیان ومعتقدات و من أقطار أخرى، لیصبح الشعر الحسینی بذلك یمثل أصدق تمثیل المشاعر الإنسانیة على مختلف مشاربها و میولها، هذه المشاعر التي تلتقی عند هذا الحدث الجلل لتعبر عن موقفها المؤازر لصاحب الشهادة وللقیم التي ضحى بنفسه من أجلها.

و للحقیقة فان ضخامة المادة المتعلقة بهذا الموضوع المرکزي لتشیر بالضرورة إلى ضخامة الجهد الذي یتطلبه عمل بهذا الحجم. فجمع کل ما یتعلق بالحسین بن علي من أمهات کتب الفقه و السیرة و التاریخ، ثم جمع الشعر الحسیني من بدایته حتى أیامنا، بما في ذلك الشعر الشعبي على اختلاف أوزانه، ثم الشعر الفارسي وغیره مما وعدنا برؤیته مجمعاً في دائرة واحدة من المعارف، کل هذا یدل على الجهد المبارك الذي یقوم به واضع هذه الدائرة من المعارف التي سیتناولها القراء و الدارسون، لأنها تجمع بین دفتیها کل ما یرید القاريء أو الباحث معرفته. و لا بد أن یُنتج هذا الجهد المبارك دراسات و أبحاثاً قیمة تثري الإنسانیة في بحثها عن حیاة أفضل قائمة على القیم و المثل العلیا.

نرجو أن نرى دائرة المعارف هذه کاملة بین أیدینا، کما نرجو أن ینعم مؤلفها و محققها الشیخ محمّد صادق الکرباسي بثمرة هذا الجهد المحمود و هذه المأثرة الخالدة.

  

2001/12/28م

Palistine بروفسور جورج قنازع

جامعة حیفا

 

......................................................

-1 أنظر مقالنا عنه بعنوان "عبد الله بن عوف بن الأحمر شاعر التوابین في القرن الهجري الأول" في مجلة الکرمل – أبحاث في اللغة و الأدب، الصادرة عن قسم اللغة العربیة و آدابها و معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة حیفا، العدد 18-19، 1997-1998، ص. 331-352. و قد ترجم له المرزباني في معجم الشعراء ( تحقیق عبد الستار أحمد فراج، القاهرة 1960، ص. 126 ) باسم عوف بن عبد الله بن الأحمر الأزدي .

-2 أنظر:

George J. Kanazi: " The Massacre of Hussein b. ‘Ali between History and Folklore; " in S .Ballas & R. snir ( ed. ): Studies in Canonical and Popular Arabic Literature; York Press Ltd. Toronto 1998; pp. 23-36 .

3- و قد بحثت هذا الجانب من شخصیة الحسین و تعرضت لهذا الدیوان في مقالة لي ستنشر قریباً في مجلة الجمعیة الألمانیة للدراسات الشرقیة (zdmg) .