دعم الموسوعة:
Menu
Pierre Lory

أفق أخروي

 

تـناول الدکتور بییر بن لوري الأخصائي بالدراسات الدینیة، دیوان القرن الثالث من دائرة المعارف الحسینیة،

وقد ترجمنا النص الفرنسي الى العربیة.

  

منذ القرون الهجریة الاولى، دأب الشیعة سنویاً على إحیاء مناسبتین رئیسیتین بالنسبة للطائفة: الاولى تسلیم النبي الولایة لعلي في غدیر خم، والثانیة مقتل الحسین وأصحابه على ید الأمویین في کربلاء عام 680. وحول هذه المناسبة الثانیة، تعرض دائرة المعارف الحسینیة مضامینها ببلاغة وقوة، تدعو الى التأمل. وهنا یجدر التساؤل: لماذا تقوم الطائفة الشیعیة بإعطاء هذه القیمة الکبـیرة لحادثة کانت تبدو هزیمة؟ ولماذا تُجدد مراسم الحزن الشدید وبمرارة متزایدة على مرّ هذه العصور؟ هذه الأسئلة تحملنا کي نعیش في قلب الاشکالیة السیاسیة الحساسة لحیاة الإمامیة، تاریخیاً، فان النصر العسکري للطائفة الشیعیة، والاعتراف بعقیدتهم من قبل أغلبیة المسلمین أصبح حلماً بعیداً وصعب التحقق إلا في الأفق الاخروي، وکرسي الخلافة قد انفلت عام 750 لیقع في أیادي بني أمیة ثم بني العباس، ورغم الوعود العباسیة للعلویـین خصوصاً أثـناء ثورتهم على الأمویـین فانهم استولوا بمفردهم على السلطة وأزاحوا الشیعـة عن طریقهم، لذا فان الضغوطات والاضطهاد الذي عاشته الشیعة، جعلها تُـقَـدِّم کربلاء کالنموذج الأمثل الذي على الشیعة أن یعیشوه.

ما الذی حدث فعلا في کربلاء؟ وما هو الدرس الذي یجب أن نستـقیه منه؟ وهل رمى الإمام نفسه في هذه الحملة الفاشلة؟ وکیف یحارب وهو یعلم نتائج الحرب؟.

إن الاحتـفال بالیوم العاشر من محرم یجیب على الکثیر من هذه التساؤلات وغیرها.

الأول، فیما یخص القیمة الایثاریة التي تصل الى حد الشهادة، ولکن هناك ملاحظة، فأیة قراءة غربـیة من أصل مسیحي لهذه الحالة، تـشعر انها على أرضیة معروفة لدیها. فالتراث الدیني المسیحي یجعل من مصیر المسیح على أنه شخص رفض کل السلطات السیاسیة، وانتهى الأمر الى حکم غیر عادل، مصاحب بالتعذیب، انتهى بصلبه لیؤکد أن ذلك الشخص الضعیف والمغلوب على أمره بنظر الناس، قد ساهم روحیاً بنصرة الحق حسب منطق لا بشري. وعذابات المسیح قد حملت معاني عمیقة للفداء. فإن المسیح إذ یقبل العذاب رغم براءته، فذلك لیأخذ على کاهله ذنوب البشریة وخطایاها منذ أن خُلق آدم. والمـؤمنون علیهم أن یسلکـوا هذا السلوك، وأن یقبلوا بدورهم في العذاب المکتوب، وإن کانوا لا یستحقونه، لأن قبولهم لهذا یمسح ذنوبهم.

یـبدو لنا بشکل عام أننا نخطيء خطأً کبیراً حین نقارن بـین إحیاء الشیعة لمعاناة الحسین وبـین آلام المسیح عند النصارى، لأن هناك حتماً نقاط اختلاف. فالشهادة في الوعي الاسلامي تحمل قِیَماً عالیة وهي تمحو ذنوب الشهـید وتمنحه ثواباً أبدیاً. ومعاناة الحسین وقـتله جعلت منه شهیداً في علیّـین وشفیعاً لأتباعه المخلصین ومَن یحبّه ومَن یتبعه بشکل خاص. هنا لا تصحّ المقارنة، لأن آلام المسیح قد اکتسبت صفاتها المذکورة عند المسیحـیة باعتباره ابن الربّ، وهذا المفهوم غریب على الوعي الإسلامي الذي یرفض حتى موت المسیح (القرآن – سورة النساء – الآیة 157). وفکرة ان معاناة إنسانٍ ما یمکن أن یستـفید منها أناس آخرون (قربان القدیسین) لیس لها وجود في الدین الإسلامي الذي یؤکد على أن الإنسان ذاته هو الذي یتحمّل خطایاه. وأن شفاعة الأنبـیاء والأئمة والقدیسین یوم القیامة موجودة في التراث، لکنها تعبر عن خطوة عزم من قبلهم، ولیس تضامن منظم على الطریقة البشریة.

إن إحیاء مناسبة استـشهاد الحسین في نفس الوقت تمثـل ثـقلا ذا معانٍ روحیة، فکل إمام یحمل رسالة خفیّة خاصة (باطنیة) مکمّلة لقانون الشریعة السماویة، ولکن لا الرسالة ولا صفات الأئمة تـتطلب بالضرورة کمّـاً کبـیراً، بل هي على الأغلب محصورة بحلقة ضیـّقة من الأنصار. فشهادة الحسین في کربلاء بحدّ ذاتها تعتبر رسالة من هذا النوع، کعمل یوجّه المؤمن الى حقیقة أعمق. وهذا المعنى العمیق یعالج القیمة الحقیقیة للشهادة العقائدیة، ذلك أن الدین الإسلامي لم یمنح قیمة خاصة للعذاب المکتسب في حدّ ذاته، فکل ما یحصل للإنسان أو الجماعة في الحیاة الدنیا، هو بإرادة ورغبة الخالق، إذا کان سعادة أو شقاء، وکلاهما لا یستبعدان أو یرفضان، بل یستـقبلان کنوع من البلاء. ومفهوم البلاء هذا أساسی، فهو لیس عقاباً، بل على العکس. إن غیاب الـبلاء قد یعنی لعنة على غیر المؤمنین، حیث ان عدم البلاء قد یقودهم الى العقاب. وقد یحمل البلاء على العکس، رحمة إلهیة، إذ یمکنه أن یتجلى کفرصة للمؤمن یُـکـفّر فیها عن سیئاته ویتـطهّر ویتـقرّب الى الله. ضمن هذا المعنى فان المؤمنین مدعوّون الى عدم الیأس والإحباط، وأن یحافظوا على ثـقـتهم بالله. فالشهادة العقائدیة التي یحملها أثـناء البلاء لها قیمة أعلى بکثیر من عقیدة الناس المیسورین مادّیاً والمرتاحین جسدیاً.

فان الإطار الخلفي لهذه المقاطع الشعریة لیس فقط الحزن والإحباط، فان کل العذابات المخرجة في هذا النوع من الأدب تـقف وراء أفق أخروی، ألا وهو قـدوم الإمـام الشرعي، حامل الحق الذي یأتی لیـُظهر المعنى الحقیقي للبلاء الذي یعیشه المؤمنون.

ومعرکة کربلاء تـشکل روایـةً لمأساةٍ، ولیس فاجعة، لأنها ما فتـئت تکثف الانتـظار للـوعد السرمدي.

لذا فان الشهادة العقائدیة هي أفضل أعمال الإنسان المسلم، وکل الفرائض الأخرى ثانویة. وهنا المفارقة إذ اننا نشهد عادة بشيء رأیناه أو سمعناه بشکل أکـید، في حین أن الله مستـتر، ویتجاوز السمع البشري. إذاً لماذا ولمن وکیف یشهد المؤمن؟ هو یشهد من خلال العقیدة بالله الواحد الذي لم یلد ولم یولد. وکل المفهوم الباطنی للشهادة نراه منبثـقاً من الشهادة بالوحدانیة لله، والله وحده القادر على الشهادة لـنفسه. فـعندما ینطق المؤمن بالشهادة " أشهد أن لا إله إلا الله " فـفي الحقیقة ان الله هو الذي یمنحه الثـقة والقدرة على أن یکون مسلماً. والمسلمون یرددون هذه العبارة دائماً وبشکل روتیني، أما الشهادة بمعناها الآخر فتختـلف تماماً وهي أن یکون الإنسان مستعداً لتـقدیم حیاته من أجل عقیدته، فرسالة الله لیس لها معنى في أفواه الناس إلا هؤلاء الذین یجعلون من الحسین أسوة لهم، یجاهدون في سبـیل العقیدة، ویکشفون القناع عن الکفر فی نفس الوقت.

 إن الثـقة في إرادة الله على البشر تـتجسد في شهادة الحسین، والقصائد العدیدة التي نظمت في حق الإمام الحسین ومصرعه المأساوي، والمذکورة في هذا المجلد، تـشهد على ردّة الفعل الحیویة التي یعیشها المؤمنون تجاه فاجعة کربلاء. فهُم یعبّرون عن الألم والحزن والغضب والثورة، وحبّ مخلص لأهل بیت محمد، وانهم ثابـتون على العقیدة الحقّة لله تعالى، التي ستبعث لهم بالمهدي المنتظر. بهذا المعنى، فانهم یترجمون حالة کل إنسان مسلم أمام العذاب والألم بشکل شعر روائي، فلیس علیه إلا ان یتـقبلها في لیل الروح الذي لا تضیئه سوى أنوار العقیدة. فالظلم الذی یعیشه الإنسان من أناس آخرین، والفراق بین الأحبة وغیرها، مقبولة، ولکنها لیست مخففة. فالحزن وراحة البال، والدموع والأمل، حالات معاشة وبکثـافة، ولکن على المستوى الروحـي یکـون الحزن "لله" وفي "الله" ویمکّن "بالله ".

إن التلاوة الشعریة لمأساة کربلاء، تـتـناول عدة حالات لیست بالضرورة ألیمـة وحزینة، وعلى کل حال، فان الإطار الخلفي لهذه المقاطع الشعریة لیس فقط الحزن والإحباط، فان کل العذابات المخرجة في هذا النوع من الأدب تـقف وراء أفق أخروی، ألا وهو قـدوم الإمـام الشرعي، حامل الحق الذي یأتی لیـُظهر المعنى الحقیقي للبلاء الذي یعیشه المؤمنون.

ومعرکة کربلاء تـشکل روایـةً لمأساةٍ، ولیس فاجعة، لأنها ما فتـئت تکثف الانتـظار للـوعد السرمدي.

  

France فرنسا - باریس

بییر لوري